بسم الله الرحمن الرحيم
22:26 وإذ بوأنا لإبرهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيءا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود
22:27 وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق
قد أعتقد الكثير في بادئ الأمر أن كلمة “بوأنا” في سورة الحج الآية 26 بأنها تعني “بينا” ولكننا من بعد التأكد وجدنا أن حرف الجر “لام” في كلمة “لإبرهيم” تدل إلى شيئ مختلف عن هذا الفهم. فجذر الكلمة “بوأ” نجده في 17 آية لتوضح لنا مفهومها:
2:61 … وباءو بغضب من الله …
أي نزل عليهم غضب الله وأحاط بهم
3:121 وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقعد للقتال والله سميع عليم
3:122 إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون
(فتوزيع وتحضير المؤمنين حسب منازلهم وفي الأماكن الذي حددها لهم حيث أنهم كادوا أن يختلفوا)
فكلمة “البيئة” أتت أيضا من نفس الجذر, وعندما نقول في العربية الحديثة “لقد تم إعداد البيئة” فهي تعني “قد بوأ المكان” أي جعله صالحا للعيش فيه, لأن هذا المكان, أي مكان البيت, هو في الأصل غير قابل بأن يزرع فيه, حسب الآيات 35 – 37 من سورة إبرهيم:
14:35 وإذ قال إبرهيم رب اجعل هذا البلد ءامنا واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام
14:36 رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم
14:37 ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفءدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرت لعلهم يشكرون
فأول بيت وضع للناس, أي المكان الذي تلتقي به الأمم من جميع أنحاء العالم, هو مقام إبرهيم. والفكرة هي أن الله أوحى لإبرهيم أن يأسس البيت في مكان لا تطالب به أية فئة أو دولة لعدم وجود صلاحية العيش به ويكون البيت منطقة محايدة تلتقي بها العشائر او أصحاب المدن والقرى لتباحث الأمور سلميا وعلى الأقل مرة واحدة في السنة. ولو رددنا كلمة “الحج” الى مصدرها “حاج” لوجدنا انها تعني ” الأتيان بالحجة” كما وردت في عدة آيات, منها الآية 258 من سورة البقرة:
2:258 ألم تر إلى الذى حاج إبرهم فى ربه أن ءاتىه الله الملك إذ قال إبرهم ربى الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبرهم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظلمين
وكلمة “البيت” تستعمل أيضا في وقتنا هذا لـ “البيت الأبيض” حيث يجتمع رؤساء المحافظات الأميريكية لتداول الأمور بينهم أو بين رؤساء العالم.
3:96 إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعلمين
3:97 فيه ءايت بينت مقام إبرهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العلمين
فالمكان آمن من أي إعتداء حتى ولو كان هناك فئات متحاربة في بلادها, فهي تحظى هاهنا بالآمان والإحترام لتكون لديها الفرصة بأن يجدوا حلا يرضي جميع الأطراف. “ومن كفر” أي, أما من رفض الدعوة ولم يستجب لتداول الأمور سلميا مع الأخرين فلا ينظر بعين الإعتبار.
لاحظ أن أمام الكعبة منصة والتي كانت في الماضي تستخدم للخطيب (صاحب الحجة) وأن هذا الشكل الدائري حول الخطيب كان معروف لدي الرومان والإغريق في جلساتهم السياسية
هل الحج هو برلمان؟
نحن نعلم بأن هذه الدراسة لكلمة “الحج” و “البيت” ستقلب المفاهيم التراثية رأسا على عقب. ولكن دعونا أولا ومن قبل التشكيك أن نتصور هذا الأمر ببساطة ونتساءل في أنفسنا:
لو كانت وظيفة الحج هي تدوال الأمور بين الدول الإسلامية بشكل سلمي وعلى متفق واحد في بيت الله, لكنا بالفعل أفضل الأمم على الأطلاق. وهذا ما يحاول الغرب جهده منذ أمد طويل بأن يصل إليه حين وحد البلدان الأوروبية تحت شعار واحد مع إختلاف لغاتهم ومعتقداتهم. وها هم المتأسلمون لديهم لغة واحدة ودين واحد ولكن للأسف لا يتفقوا وتبقى العداوة والبغضاء والحروب التي لا تنتهي بينهم, وقد صدق الله بهم القول “تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى“.
فريضة الحج
2:197 الحج أشهر معلومت فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولى الألبب
نلاحظ من الآية بأن أي شخص بإمكانه أن يفرض الحج “فمن فرض فيهن الحج” ولا تقول بأن السلطات السعودية هي التي تفرضه, ولا ننسى أيضا بأن الحج وقت معلوم, يأتي مرة كل سنة. فكيف يفرض المرء منا الحج؟
بالطبع فأن صاحب الحجة هو من يأتي بحجته أمام الجمع, إن كانت مشاكل سياسة أو بيئية أو حروب تعاني منها الشعوب, فهو بذلك يقدم الحجة المأمور بها من قومه للمسؤلين المختصين فيقوموا بتداولها ومحاولة أيجاد حلول لها تحت ضوء القرءان وما أمر به الله من عدل وحق.
قوانين التباحث السلمي في الحج
والعبارة التي تلي فرض الحج: “فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج” هي قوانين النقاش السلمي فلا يكون هناك شتائم (رفث) أو تعدي بغير حق (فسوق) ولا جدال أي محاولة التشكيك بصحة الحجة المدلاة والنقاش بها دون جدوى, كما وردت في الآية 6:25 “إذا جاءوك يجدلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أسطير الأولين“.
فنحن نؤمن بأن كل شيء أعطانا إياه المولى له سببه ومنطقه ونجد أن الحج أصبح لا شيء سوى ذهاب وإياب وتمسح بالأحجار للأسف.
الحج, عشرة أيام أم أشهر
القرءان يسير وسهل الفهم, ولا بحاجة لشخص يقوم بتأويله ليقضي حاجته الخاصة. والآية 197 من سورة البقرة واضحة, وتبين لنا أن الحج يكون على الأقل ثلاثة أشهر أو أكثر (ليست شهر أو شهرين بل أشهر). وهذا من رحمة الله في عباده. ولو قارننا العشرة أيام المنصوصة من السلف أو الحكومات المختصة والملايين من الناس التي تزدحم في هذا المكان لتقضي حاجتها وبين الفترة الزمنية من 3 أو 4 أشهر حيث يأخذ الحاج راحته, يختار الوقت الذي يناسبه دون أن يكون تحت ضغوط, فنرى أن الفرق شاسع.
القانع والمعتر
قد أتى ذكر إطعام المساكين في أوقات الحج ولكن أطعام المسكين واليتيم وابن السبيل واجب على كل مؤمن وفي كل وقت.
22:36 والبدن جعلنها لكم من شعئر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرنها لكم لعلكم تشكرون
وبالنسبة للكلمتين “القانع والمعتر” فقد أختلفت الأقوال بهما وذهب أكثر المفسرون على ان المقصود بهما “المساكين”. ولكننا لو تفحصنا الكلمتين من مفاهيمنا البسيطة سنجد التالي:
القانع: من القناعة وهي الإكتفاء الذاتي دون زيادة
المعتر: ومنها العترة وهي نسل الرجل أو عشيرته. والمعتر على وزن (المفعل) أي المصاحب لعترته فلهذا لا تكفيه وجبة واحدة بل يجب إطعام من معه أيضا.
والمقصود الكلي هو تأمين المأكل والمشرب للذين يؤدون حجتهم إن كانوا فرادا أو كان معهم طاقمهم, بالضبط كما يحصل في اللقاءات الدبلوماسية حيث يكون هناك أطعمة للزوار, ولو كان هناك فقراء لا يستطيعون شراء الأكل فلا حرج بإطعامهم منه.
الحج والعمرة
2:158 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم
لقد قالت أو تقولوت أصحاب التأويل من الأباء بأن العمرة هي “الحج الأصغر” وقد إستنتجوا هذا من العبارة “الحج الأكبر” ولكن الأمر الذي يدعوا للإلتفات هو أن الكلمتين “الحج والإعتمار” أتيا مع بعضهما في نفس الآية. وأما الفرق بينهم فنتبينه من خلال الآيات ليس إلا:
- حج البيت: كما أتى وصفه في الأعلى.
- الإعتمار: أتت في عدة آيات آخرى وتدل على التواجد في المكان دون أن يكون هناك أي حجة , مثال: عمارة المسجد الحرام, في الآية 9:19:9:19 أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الءاخر وجهد فى سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدى القوم الظلمين
وكما نرى في هذه الآية أن الحج والعمرة يكونا في نفس الوقت, وأن العمرة لا تعني إلا التواجد في هذا المكان. فربما يود أحدهم الإعتمار أي أن يبقى فقط للمشاركة وسماع الحجج المختلفة دون أن يبدي رأيه أو ربما لأسباب آخرى لا نعلمها. والمقصود هو أننا بإمكاننا زيارة المسجد الحرام في أي وقت كان حتى ولو في أوقات الحج دون أن نفرض الحج بأنفسنا أي نأتي بالحجة لإيجاد حل لها.
التفث والنذور
22:29 ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق
التفث: قضاء الحاجة التي حملت على عاتقه ليقوم بها كصفته مأمورا بتمثيل شعبه
النذر: ما عاهد به المرء أهله أو قومه بأن يفرض بالحج وأن يأتي من بعدها لقومه بحلول. فهو يؤدي بذلك دور الممثل الدبلوماسي لبلدته.
الطواف
2:158 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم
أما الطواف حول الكعبة فلم يأتي ذكره في القرءان بل قال لنا المولى عز وجل أنه ليس هناك إشكال لو أردت التحرك في هذا المكان. فحدود المنطقة الآمنة والتي ممكن التجول بها هي من الصفا حتى المروة وهي ليست من واجبات الحج, ولكنها من الأماكن التي شهدت وقائع تاريخية, فمن تقدم وتطوع بأن يظهر هذه المعالم للطوائف المختلفة وحسب لغتهم فهي من محاسن الأمور وتدر الفائدة على المهتمين أو الدارسين. بعبارة أخرى, الطواف هو جولة سياحية علمية للزائرين.
ملخص
كما نرى من خلال الكلمات ومعانيها بأن المقصود بالحج أكبر بكثير مما ألفينا عليه أباءنا فالفوائد الناتجة عن هذه الرحلة المميزة تدر على أهالي العالم الأسلامي البركة والخير والتعايش السلمي بينها. فاللألفة بين القلوب لا تأتي إلا بالإحترام المتبادل ولو كانت الآراء مختلفة وهذا هو الدرس الذي نتعلمه في الحج والذي أمرنا به رب العلمين بأن يقضى حسب القوانين التي نصها لنا. ولو تساءلنا كيف يكون هناك شخصين يركعان ويسجدان بجانب بعضهما في هذه الأيام العشرة ومن بعد ذلك يذهب كل منهما إلى بلاده ليرفعان سلاحهما على بعض لتبين لنا أن هذا الحج التراثي لم يأتي بالفائدة على أهله بأي شيئ. فالدين الإسلامي هو دين العقل والتفكر والحكمة وهو دين العمل الخالص لله وهو دين السلام بين العباد وهو دين الرأفة والتسامح والتعاون. وهذا كله لا يكون إلا من خلال التلاقي بين الشعوب في مكان له حرمته وإحترامه, يذكر به إسم الله في كل أمر.
ملاحظة: لم أتطرق لجميع المصطلحات القرءانية التي تختص بموضوع الحج ولكنى أحببت أن أشارك وبشكل بسيط الفهم الذي توصلنا إليه من خلال دراستنا للقرءان, عسى أن يكون بداية خير يعم على المسلمين أجمعين إن شاء الله
الحمد لله رب العلمين