بسم الله الرحمن الرحيم
لقد تكلمنا في عدة مواضيع بأن التشكيل الذي تم رسمه على الكلمات القرءانية من قبل البشر لا يمت بصلة للنسخة الأصلية للقرءان الذي أنزل على النبي محمد في عهده الأول بل هو منتوج العصر العباسي ولأسباب ذكرناها في ما قبل. هذا التشكيل قد يصيب في أكثر الأحيان ليعطينا المفهوم الصحيح للآيات ولكنه ليس معصوما من الأخطاء كليا ولا بد لنا بأن نحذر حين تدبرنا للآيات وأن لا نتشبث بأفكار السلف التي عكست عبر هذا التشكيل. الآية 92 من سورة براءة (9) نجد أن الكلمتين “لِتَحمِلَهُم” و “أَحمِلُكُم” قد تم تشكيلهما بشكل يعطينا نتيجة غير مفهومة أو منطقية. لقد وضعنا هذه الآية بتشكيل وبدون تشكيل حتى نوضح الفكرة والأسباب التي دعتنا لمفهوم آخر عما أتى به السلف:
9:92 ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون
9:92 وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا۟ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا۟ مَا يُنفِقُونَ
لنحاول أولا فهم المقصود من هذا التشكيل ونأخذ المقطع الأول من الآية لتدبره (وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ).
السؤال الذي حيرنا هو كيف يحمل الرسول هذه الأشخاص؟
وقد وجدنا في التفاسير والترجمات أن المقصود هو: حملهم على الإبل أو الخيل أو ما شابه ذلك من وسائل النقل ليتمكنوا بالرحيل معه الى أماكن القتال. ولكننا كما نرى أن وسيلة النقل لم تذكر في هذه الآبة على الإطلاق. والسؤال الثاني ردا على هذا التفسير هو: هل جميع من أراد القتال في سبيل الله بحاجة أو كان لديهم وسائل النقل؟ بالطبع لا. وحتى يومنا هذا نجد الكثير من الجيوش ما زالت تعتمد على فرق المشاة التى لا تستخدم أي وسيلة نقلية إلا أرجلها. كما نجد هذا في الماضي عند الروم القدماء في غزواتهم والذين قطعوا ألاف الأميال على أرجلهم أو في الحرب العالمية الأولى والثانية حيث قطعت الجيوش مسافات طوية من بلد لأخر على أرجلهم. والقرءان يذكر أيضا هذه الطريقة بالتنقل كما وردت في الآية 239 من سورة البقرة:
2:239 فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون
والسؤال الأخير في هذا الموضوع هو: هل رفض الرسول حمل هذه الأشخاص لأنهم لا يملكون الكفاية من النقود لدفع نفقات الخروج معه, كما تقولت التفاسير في هذا الآية؟ وهل الجهاد بالنفس يتطلب من الشخص أن يكون عنده الكفاية من المال ليقوم بواجبه أمام الله؟
بالطبع هذا إفتراء على رسول الله وعلى الرسالة التي أنزلت معه ولكن وللأسف هذا التشكيل الذي وضع في القرءان من قبل البشر أدى لهذه المفاهيم الخاطئة والتي لا بد لنا بإعادة النظر فيها وتصحيح ما أفسدته الأيدي المتلاعبة فيه.
لهذا عزيزي القارئ وضعت لك في الأعلى الآية 9:92 بدون التشكيل المعتمد حتى يكون لك الحرية بإستنتاج المعنى من عبر فطنتك وإيمانك بالكلمة الألهية. فقراءتي للقرءان بدون التشكيل جعلتني أتفكر في كل كلمة منه ومحور الآية التي اتت بها ليتوضح لي مفهوم مختلف في بعض الأحيان عن مفاهيم السلف والأسس التي بنوا عليها هذا التشكيل. فالتعبير الذي أراحني وأوصل لي صورة منطقية أكثر هو على الشكل الأتي:
9:92 ولا على الذين إذا ما أتوك لِتُحمِّلَهُم قلت لا أجد ما أُحَمِّلَكُم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون
بضم التاء وشد الميم في كلمة (لِتُحمِّلَهُم) وضم الألف وشد الميم في كلمة (أُحَمِّلَكُم).
هنا نجد أن المفاهيم إختلفت مع إختلاف التشكيل. فالفرق بين (حَمَلَ) و (حَمَّلَ) يكمن في المعنى حسب الكلمة أو الجملة التي تليهما, حتى ولو كانت الأحرف هي نفسها. على سبيل المثال:
- أنا أحمل المسؤلية على نفسي (أحَمِل) أو
- أنا أحمل المسؤلية لغيري (أُحَمِّلَ)
من هذا المنطلق ومن هذا التعبير نجد أن القسم الأخير من الآية بدا لنا أكثر وضوحا. فما هو السبب الذي أدى بالفقراء بأن يحزنوا الحزن الشديد بأنهم لا يقدروا على المساهمة في دعم الرسول ورسالته ولو بالمال. فهم أتوه طالبين أن يحمّلهم بعض ما قدر عليه الأخرون ولكن الرسول لا يريد أن يحمّلهم ما ليس بوسعهم محتسبا أمر الله له في الآية التي سبقتها:
9:91 ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم
الحمد لله رب العلمين