النسيء في القرءان

بسم الله الرحمن الرحيم

إخوتي الأعزاء الباحثون في علوم القرءان

لقد تكلمنا في مقالة أخرى عن تصحيح الرزنامة الإسلامية (قراءة المقالة) ووضحنا الأسباب التي دفعتنا لهذا البحث محاولين به أن نجد حلول للمشاكل التي تواجه الإنسان المسلم في جميع بلدان العالم وبما فيها من إختلاف في عدد ساعات النهار. والسبب الوحيد لعدم تكافئ كفتي الميزان هو أن المسلمون يعتمدون على العام الهجري وهو السنة القمرية في أمور دينهم وعلى السنة الشمسية في أمور دنياهم. وكما نعلم أن العام القمري المكون من 354 يوما  يفرق عن السنة الشمسية المكونة من 365 يوما ب 11 يوم تقريبا (مع بعض الكسور في عدد الساعات). هذا التفاوت في العد يأخر المسلمين 11 يوما في كل سنة جديدة حيث تتراجع الأشهر الحرم في كل سنة الى الوراء وبهذا ينتهك المسلم حرمات الله بإحلاله الصيد في وقت إحرامها.

لقد تفوق الغرب في جميع المجالات العلمية بما فيها دراسة وحساب السنة المرتبطة بالفصول الأربعة. وها نحن قد أخذنا منهم الكثير من علومهم بما فيها حساب السنة الشمسية بإعتبارها الحساب الأدق في تنظيم حياتنا العملية. ولكننا ما زلنا متعلقين بتعاليم الأباء وكأنها جزء من الوحي الذي لا يقبل النقاش أو التغير. وهذا للأسف أهم الأسباب التي أدت لتراجع الأمم الإسلامية ليس فقط في علومها بل في قيمها وفهمها لرسالة الله مولىنا الكريم. نعيش في جو يتنازعه الفكر السلفي تارة وحضارة المستقبل تارة أخرى ولهذا نشعر بتناقض أنفسنا لا ندري إلى أي إتجاه سيكون مصيرنا. لا نريد أن نطول في شرح هذه الأمور ولكننا نحب أن نذكر دائما بأن نعالج أي شيئ يأتينا أو نأتي به للآخرين بعقلانية ودراسة ودون التطرف لتراث قد يكون مليئا بالأخطاء التي وجب علينها تصحيحها إن شاء الله.

النسيء

9:37 إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطءوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعملهم والله لا يهدى القوم الكفرين

لقد وضحنا في المقالة السابقة مفهوم النسيئ عند المفسرين القدامى الذين ظنوا انه عبارة عن شهر تلاعبت به العرب أيام الجاهلية بإحلاله وتحريمه كما يحلو لهم. وفي وقتنا الحالي ما زال الكثير يعتقدون أن النسيء شهر أضاعه أسلافنا وله أهميته في تعديل الأعوام القمرية مع السنين الشمسية بإضافة شهر قمري كل 3 أعوام وهو ما نسميه بالتقويم. ولكننا لو تفحصنا الآية 9:37 فسنلاحظ أمرين مهمان قد غابا عن أعين الباحثين بسبب الخلط مع الفكر السلفي:

  • النسيء لم يذكر كشهر في الآية كما ذكر رمضان (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرءان…. 2:185)
  • الآية تقول أن الكفار يحلون النسيء عاما وهذا وجبت صحته ويحرمونه عاما وهنا يقع الخطأ فهم بهذا يواطؤا ما حرم الله. فالآية لم تقل أن إحلاله وإحرامه كلاهما خطأ بل فقط عند إحرامه. وهذا يعني أن من الواجب علينا إحلاله كل عام.

وإن لم يكن النسيء شهرا كاملا وأننا يجب علينا مراعاته وإحلاله في كل عام فما هو هذا النسيء وأين نجد معادلته في القرءان؟

من قبل أن نجاوب على هذا السؤال يجب علينا توضيح بعض الأمور المتعلقة بمفاهيم الكلمات القرءانية:

اليل والنهار وحساب السنين

17:12 وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلنه تفصيلا

الآية الكريمة ليست بحاجة لتفسير فهي واضحة ويسيرة الفهم ولكننا نريد أن نعطي توضيحا حسابيا لليل والنهار. فكل واحد منهما يدل على قسم معادل للأخر في حساب اليوم الواحد. أي أن معدل الليل هو 50% (12 ساعة) ومعدل النهار 50% (12 ساعة) أيضا.

ويجب علينا الأخذ بعين الإعتبار أن الليل يأتي دائما قبل النهار وفي جميع الآيات التي ذكرا بها مع بعضهما البعض كما هي في الآية 17:12 (ها هي الآيات). وهذا الأمر يلعب دورا مهما في حساب الليالي التي أتى ذكرها في بعض الآيات. فعندما يقول الله عز وجل “ثلاثين ليلة” فهي لا تعني 30 يوما بل تسعة وعشرين يوما ونصف اليوم (29,5 يوما), لأننا نحسب الليلة يتبعها النهار فيكون الحاصل = يوم, وفي الليلة الثلاثون لا يتبعها نهار فتكون نصف يوم.

7:142 ووعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممنها بعشر فتم ميقت ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هرون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

من بعد ما تبين لنا أن 30 ليلة هم بمعدل 29,5 يوما نتفاجئ بأن هذا التعداد موافق للشهر القمري الذي يساوي 29 يوما و 12 ساعة و 44 دقيقة و 2,9 ثواني. فلو ضربنا 29,5 ب 12 شهرا (29,5×12) ستكون النتيجة 354 يوما وهذا معدل العام القمري.

ولكن ما هو السر وراءهذه العشرة التي تتمم الأمر؟ وما هو هذا الأمر الذي يجب إتمامه؟ (واتممنها بعشر)

عشرة للإتمام

نلاحظ أن الرقم عشرة (10) مرتبط في بعض الآيات بإتمام أمر ما:

28:27 قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هتين على أن تأجرنى ثمنى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصلحين

2:234 والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير

2:196 وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب

حتى نفهم هذه العشرة المتممات, دعونا نتدبر أول 5 آيات من سورة الفجر:

89:1 والفجر
89:2 وليال عشر
89:3 والشفع والوتر
89:4 واليل إذا يسر
89:5 هل فى ذلك قسم لذى حجر

لقد تكلمنا في المقالة السابقة عن “القسم الرباني” (قراءة المقالة) وبينا أن هذه الكلمة تعنى: “مقاسمة شيئ أو فكرة ما مع آخرين” والمقصود من ألأية 89:5 هو ليس الحلفان كما يعتقد البعض بل أن هنا يوجد نبأ لشخص يدرس الآيات في حجر بعيد عن الناس وأفكارهم المشتتة. وبما أنها خبر له أهميته فما هو الذي نستنتجه من الآيات الأربعة قبلها حيث أن الله أعطانا الدلالة “هل في ذلك” على ما سبق من آيات؟ لنتدبر سويا الآيات الأربعة:

1. الفجر: وهو بداية يوم جديد ويبدأ بعد إنتهاء الليل, ومعدله نصف يوم.

2. وليال عشر: نضيف إليها عشر ليال وهم 9,5 أيام

3. والشفع والوتر:
– الشفع: هو واحد من إثنين ,وهو الذي يتقدم لآخر بمعنى يمثله ويتوصط له. فالشفيع على سبيل المثال هو شخص يمثل شخصا آخر ويتوصط له.
– الوتر: هو صورة عن الشفع يتواتره أي أنه يعيده ولكن في إتجاه معاكس. والمعروف عن “التواتر” أنه مقولة يرددها شخص عن شخص آخر كالأحاديث المتواترة.
فالشفع والوتر هنا هما حالة إنقلابية في الطبيعة تأتي بعد الليلة الأخيرة أي من بعد العشر ليالي والتي يكون بها الأنقلاب الشمسى الشتوي المصادف في21 أو 22 ديسمبر حيث تنتهي حالة الشفع وتأتي حالة الوتر وهذا ما ستأكده الآية التالية:

4. واليل إذا يسر: أي أن الليالي تبدأ بالتراجع فتنقص ساعات الليل وتزداد ساعات النهار.
ففي الأنقلاب الشمسي الصيفي (21 يونيو) تكون الشمس في أعلى إرتفاع لها وبعدها تقل ساعات النهار وتزداد ساعات الليل وهو الشفع وحين تصل الشمس إلى أدنى معدل  لها وتكون ساعات الليل في أعلى مدى لها فهنا يبدأ الوتر فتتراجع ساعات الليل. فالشفع والوتر هما الأنقلابين الصيفي والشتوي (أنظر ويكيبيديا: الأنقلاب الشمسي).

هل فى ذلك قسم لذى حجر: هل في ما سبق خبر لك أيه الدارس لعلوم القرءان؟

والأن لنحسب النتائج:

0,5 (الفجر) + 9,5 (ليال عشر) + 1 (الشفع والوتر) = 11 يوما

لقد قلنا في الأعلى أن معدل الشهر هو 29,5 وبهذا تكون 12 شهرا = 354 يوما

والأن نجمع العددين 354+11= 365 يوما وهو معدل السنة الشمسية.

كما قلنا في الأعلى أن النسيء ليس شهرا بل هو أيام معدودة (11 يوما) التي يجب علينا إحلالها في كل عام قمري (معدل 354 يوما) لإتمام السنة الشمسية وتصبح كاملة (معدل 365 يوما).

للأسف قد تناسى المسلمون هذه الحقيقة وربما إسم “النسيئ” دلالة على أننا نسينا إتمام ما يجب علينا إتمامه وبهذا تعدينا حدود الله الذي أمر بأن تعظم وتحترم وهو سر النجاح في الدنيا وفي الآخرة.

الحمد لله رب العلمين